6-7 يونيو 2022 بمقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين
حضرات السيدات والسادة ..
إن سعادتنا باستقبالكم في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، لا توازيها سوى سعادتنا بعقد هذه الورشة بشراكة مع مجلس المنافسة، في إطار الشراكة التي أبرمها المجلسان. من أجل تبادل المعارف والخبرات بينهما، وربط جسور التعاون بين السلطات والمؤسسات الوطنية، وفقاً للدستور. ولذلك نسعد اليوم بالمشاركة في هذه الورشة حول تطبيق قانون المنافسة، مؤملين أن تسهم في توسيع مدارك القضاة المشاركين فيها، للإلمام بتطبيقات هذا القانون، وتحسين معارفهم بجزئياته وتفاصيله، بما يسهم في تطوير الأداء القضائي والتطبيق العادل للقانون. وهي غاية نصّ عليها دستور المملكة، ويَسعى المجلس الأعلى للسلطة القضائية عبر استراتيجيته، إلى ترسيخها بعدة وسائل، من بينها التكوين المستمر ومبادرات التخليق والحكامة القضائية. ولذلك نسعى عبر شراكتنا المتميزة مع مجلس المنافسة، إلى الاستفادة من الخبرات الكبيرة، والمعارف الواسعة لكفاءات مجلس المنافسة لتعريف القضاة على القوانين المنظمة لهذا النظام الاقتصادي الحر، الذي كرسه دستور المملكة وأحدث له مجلس المنافسة للسهر على ضبطه ومراقبة الممارسات المنافية له.
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كانت دولة القانون تستند أساساً إلى سيادة القانون، فإن فرض هذه السيادة، لا يتم بوضع القوانين فقط، ولكنها تقتضي أن تكون تلك القوانين عادلة ومنصفة تراعي الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات، كما نصت عليها المواثيق الدولية المصادق عليها، وكما أقرها الدستور، من جهة. كما تحتاج إلى سلطات ومؤسسات قوية، تنهج حكامة جيدة من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد، فإن مبدأ المنافسة الحرة الذي اعتمده دستور المملكة، لا يقف عند حدود توفير تشريع يرسخ مبادئ الشفافية والمنافسة الحرة الضرورية بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين، ولكن وأساسا بوجود مؤسسات حكامة جيدة تراقب تطبيقه، وتسهر على فرض تنفيذه، وتحد من الممارسات المنافية له. كما يحتاج إلى قضاء مستقل وقضاة أكفاء يضبطون قوانين التنافس الاقتصادي ويلمون بالاجتهاد القضائي وتطوره ومواكبته للحركية الاقتصادية وأساليب السوق.
ومن هذا المنطلق حرصت المملكة المغربية على حماية النهج الليبرالي القائم على المبادرة الحرة، واقتصاد السوق، بقوانين عصرية قادرة على مواكبة متطلبات التنمية الاقتصادية والتجارية، وعلى جلب الاستثمار والحفاظ عليه. وتستجيب لتطلعات الرأسمال الوطني والأجنبي، في تعزيز التنافس النزيه والخلاق بين المقاولات، بما يسمح بتقديم أجود الخدمات للمستهلك بأفضل الأسْعار.
وهكذا فإن قانون المنافسة سلك محطات مهمّة ساهمت في تقدمه وتطوره. حيث تمت دسترة مبدأ التنافس الحر بمقتضى الفصل 35 من دستور المملكة لسنة 2011، وتأكيد دسترة مجلس المنافسة بمقتضى الفصل 166، باعتباره هيأة للحكامة الجيدة والتقنين، عُهِدَ إليها بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها، والممارسات التجارية غير المشروعة، وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.
وخلال سنة 2014 صدر القانون رقم 20.13 المتعلق بمجلس المنافسة. والقانون رقم 12-104 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة. وخلال سنة 2000، أعيد تنظيم المنافسة بمقتضى القانون رقم 99.06 نحو شكل أكثر حرية، مماثل للنظام الأوربي. وأقر هذا القانون مراقبة لاحقة للممارسات المنافية للمنافسة ولعمليات التركيز. كما جعل هذه المراقبة تخضع لسلطة رئيس الحكومة، الذي يمتلك سلطة القرار ولمجلس المنافسة الذي عُهد إليه بالاستشارة والتوجيه. بالإضافة للسلطات التقريرية التي خولها له القانون رقم 13-20 بشأن التحقيق والمعاقبة.
ولا شك أن دقائق وتفاصيل هذه القوانين، ستكون محل نقاش وتحليل من طرفكم خلال اليومين اللذين تنعقد فيهما هذه الورشة، وهو ما يؤمل منه تحقيق الغاية من هذا اللقاء، بالتعمق في تحليل الإشكاليات التطبيقية وتبادل الرأي بشأنها.
حضرات السيدات والسادة؛
إن الغاية من تنظيم المنافسة وحظر الممارسات المنافية والمقيدة لقواعدها هو ضمان حرية التنافس ومصالح المشغلين الاقتصاديين ولا سيما المقاولات الصغرى، والمبادرات الفردية، ومنع الهيمنة والاحتكار الذي يقضي على هذه المقاولات والمبادرات ويضر بحقوق المستهلكين ورفاهيتهم.
وإذا كان القانون رقم 104.12 بما يتضمنه من مقتضيات حمائية متقدمة أبرز تجسيدا حقيقيا لهذه الفلسفة. فإن المتتبع للقرارات والآراء الاستشارية والأنشطة العلمية والتواصلية ومختلف المبادرات التي يقوم بها مجلس المنافسة، سوف يقف على الأهمية المتنامية التي تضطلع بها هذه المؤسسة الدستورية في إرساء قواعد الحكامة الجيدة في المجال الاقتصادي. ويكتشف كذلك مقدار الآمال التي يعقدها عليها الفاعلون الاقتصاديون والمستهلك والسلطات العمومية على السواء، لتنظيم التنافس الحر وحماية مصالح مختلف الأطراف. ومن أجل الوفاء للرؤية الملكية السامية التي تضمنتها الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في الندوة الأورومتوسطية حول “قانون وسياسات المنافسة” المنعقد بالدار البيضاء يوم 18/07/2000 بالقول السديد :
“نود أن نؤكد لجمعكم أن المملكة المغربية، وهي الدولة العريقة ذات التقاليد الراسخة المستمدة من الدين الإسلامي، الذي تتنافى تعاليمه المثلى مع كل أنواع الاحتكار والغش والميز، وتدعو إلى استباق الخيرات وإلى التعامل النزيه مع الآخرين كيفما كانت انتماءاتهم العرقية والدينية والوطنية، ستواصل بعزم وثبات مسيرتها من أجل تأهيل الإطار القانوني المؤسساتي لاقتصادها الوطني في اتجاه ضمان أحسن شروط إدماجه في مسار العولمة بما تقتضيه من متطلبات التنافسية الاقتصادية التي تقرها وتتبناها اليوم المجموعة الدولية.
وإننا لعازمون على توطيد هذه المكتسبات ضمن النهج الديمقراطي الطموح الذي اخترناه لنبوئ بلادنا المكانة المرموقة اللائقة بها بين الدول الديمقراطية كدولة للحق والقانون. رائدة في محيطها، متعددة التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية. عاملين على إرساء اقتصاد تنافسي متحرر، قائم على المبادرة الحرة والسباق نحو الأفضل. ومحقق للتكافؤ الاجتماعي والرقي الثقافي”.
انتهى النطق الملكي السامي.
الحضور الكريم؛
يؤمن المجلس الأعلى للسلطة القضائية اليوم بأن من مستلزمات النجاعة القضائية ومتطلبات الأمن القانوني، التكوين المستمر للقضاة في قوانين تقنية يحتاج استيعابها إلى الانفتاح على مختلف المخاطبين بنصوصها، والاطلاع على آراء الهيئات الرسمية التي تطبق مقتضياتها.
ويندرج لقاء اليوم في هذا السياق الذي يعكس إرادة التكامل وتبادل الرؤى بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ومجلس المنافسة من جهة، والتعرف على التجربتين الفرنسية والإسبانية في هذا الباب. وهو ما سوف يسهم في تحسين شروط توزيع الاختصاص وتنسيق الأدوار بين القضاء ومجلس المنافسة، المقرر بمقتضى القانون
رقم 12-104 حول حرية الأسعار والمنافسة. وأكيد أن ممارسة هذه الاختصاصات يتطلب من القضاة معرفة شاملة بمهام هيئات المنافسة والمساطر المعتمدة أمامها، وطرق الإثبات المعتمدة من طرفها. وما استقر عليه الاجتهاد القضائي في قضايا المنافسة ذات الصلة. وهو ما نأمل، أن يسهم هذا اللقاء في تحقيقه.
وإني، إذ أشيد، باسم المجلس الأعلى للسلطة القضائية بروح التعاون البناء مع مجلس المنافسة والتي نأمل في استمرارها ونسعى إلى ترسيخها. فإني أسعد بتقديم جزيل الشكر والامتنان لرئيسه الفاضل المحترم السيد أحمد رحو، الذي يرجع له الفضل في عقد هذه الشراكة بين السلطة القضائية ومجلس المنافسة، وفي العناية بالأطر القضائية التي تواصل لقاءاتها بهياكل مجلس المنافسة منذ حوالي ثلاثة أشهر للتعرف على تنظيم المؤسسة والإلمام باختصاصاتها. راجياً لسيادته ولكافة أعضاء مجلس المنافسة وأطره العليا وإدارته كامل التوفيق والسداد مؤكداً لسيادته استعداد المجلس الأعلى للسلطة القضائية للتعاون البناء الكفيل بتفعيل الإرادة الملكية السامية ومبادئ الدستور وأحكام القانون، بما يخدم مصالح بلدنا ومواطنينا، ويسهم في احترام الاتفاقيات الدولية، وحقوق الإنسان في بعدها الكوني المحدد بمقتضى ديباجة الدستور.
أشكركم جميعاً على حضوركم. وأتمنى لأشغال هذه الورشة التوفيق والنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.