أكد السيد ياسين ازريعة، باشا بخريبگة وباحث في خطاب اللسانيات ولسانيات الخطاب، ان مؤلفه الموسوم
“بلاغة الإيجاز وفصاحة الإنجاز: السمات اللسانية ذات الأولوية في الخطب المولوية” “كتاب حاز قصب السبق في مجال النبش اللساني في طبقات الخطاب السياسي عموما والملكي تخصيصا، وفق مناويل قرائية انطلقت من البلاغي والإبلاغي والتواصلي ومرت بالمستوى الأسلوبي والنحوي والصرف-تركيبي لترسوا في إبحارها بمرافئ المستوى المضاميني والإقناع والإبداعي والسيميولوجي.
ويرى صاحب المؤلف ان من يحاول ان يحلل المتن الخطابي الملكي التراكمي الكمي والكيفي الذي ناهز ربع قرن في سقف كتاب لم يتجاوز 530 صفحة فهو بالتاكيد كمن حاول ان يضع جَملا في شطيرة، لانه لا يمكن تنميط وتحنيط مدونة خطابية ملكية ممتدة زمنيا وتيميا على مساحة فترة 25 سنة من الحكم، لاستحالة الإنطلاق من جميع الممارسات الخطابية الملكية (خطابات، حوارات، رسائل، رسائل ملكية سامية يتلوها مستشاروه، كلمات ترحيبية تتخل مأدبات تقام على شرفه او شرف ضيوف جلالته…) لتحنيط مدونة خَطابية ممتدة لربع قرن في كتيب له سقفه الكمي.
الكتاب وموضوعه جاءا بعد حاصل دراسة مسحية للأعمال البحثية ذات الصلة بالخطابات الملكية، طاف فيها البعض فقط بتحليل الخطابات المولوية سياسيا ولم يتوسل جلها بالأدوات القرائية اللسانية إلا من باب التوطئة المفاهيمية… وحتى من حاول غزل ألياف اللغة الخطابية الملكية، فَعل ذلك على استحياء وغازل المؤسسة أو نازل الحقول الأخرى، فتنازل بكل الأحوال عن العلمية طمعا أو وجلا أو خجلا، فاقتصر على الشق التواصلي وفق تناول سطحي لم يبرح الشق المفاهيمي، او ظل واقفا عند عتبة المدخلين السياسي والدستوري، مع سنة تحاشى المقاربة اللسانية في العديد من البحوث المتراصة في طبقات جيولوجيا وجنيالوجيا النسق السياسي المغربي، ولدى ثلة من أركان البحث، بما فيهم رائد البحث الأنتربولوجي جون واتربوري في كتابه حول “الملكية والنخبة السياسية في المغرب”.
الكتاب تناول موضوعا بِكرا لم تُعبِّده أقلام الباحثين، ليجد القارىء والمهتم قطوفا مما أدناه منه المؤلف دون شتات بين الديار، فيولوا الأدبار ، لان رهانه كان إنجاح الزيجة المختلطة بين دويلات الحوار المعرفي ، دون أن يجنح في هذه المهمة المسحية لأركيولوجيا الخطاب الملكي والسياسي عموما، وبالتالي تتبع الإنتاج الخطابي الملكي والسياسي الوطني تَصوُّرا، وصياغة، وتحليلا وتناولا لمستويات توقيعه وقياسا كميا لدرجات وقعه”.
وقد وقف عند استشهاده بشذرات خطابية بما تواريه من عوالم استراتيجية خطابية وتواصلية، تراعي السياق، ووقعها في سياق وقوعها وسقف توقعها، وتتصف بالإتساق، وتروم فهم الأنساق الإتصالية وخواريزمات خلق التتبع الجماهيري ومؤشرات التتبع والإجابة والإستجابة وقنوات الإبلاغ ورسالية الإقناع، خدمة لمأرب الانسياق وتحقيق الإجماع على محورية المؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي باعتباره الضامن لوحدة التشكيلات الموزاييكية واللغوية والقبيلة والجهوية للمملكة”.
الكتاب وقف عند أهم ملمح من ملامح مورفولوجية الخطاب الملكي من خلال قراءة في الشكل ومستويات الاتساق الترتيبي والتركيبي للخطاب الملكي والصياغة وإبداع الصاغة، والشكل الهندسي والطقوس المرتبطة بالإستهلال والإستقبال وتهييئ شروط الإقبال التي يوطئ لها الإعلان المعلن للعنوان وللفعل الخطابي من خلال لازمة “صاحب الجلالة يخاطبكم”…فضلا عن قراءة في لوغاريتمات تفكيك بعض الوقائع اللغوية، والوقوف على الاستلزام الحواري، لعلاقته بالأفعال الإنجابية غير المباشرة ودوره في معالجة الأساليب الخبرية المستلزمة خبريا (في الجملة المثبتة، وفي الجملة الخبرية المنفية، وفي الجملة الخبرية المؤكدة)، وكذا في معالجة الأساليب الإنشائية المُستلزمة حِواريا (في الامر والنهي والإستفهام وفي النداء أيضا) “.
ولم يقف عند هذه العتبة، حين افرد مساحات للحديث عن سياقات التشكل وعلى مستويات السياق، وخصيصة تنويع الأساليب الخطابية والإستراتيجيات التداولية التي توقع بها المؤسسة الملكية أفعالها المادية وإشاراتها الرمزية، فترِد في سياقاتها المخصوصة لترسم المآل بعد مراعاة سياق الحال والسياق الموقفي، ومستويات الإدراك الملكي وحتى لحظات الإستدراك، فتعطي بذلك للملك ولخطاباته مستويات قبول ومنسوب إقبال يحضان على الإذعان الإرادي والإنسياق الجماعي أوالأحادي-الإنفرادي”.
وانسجاما مع العنوان الفرعي للكتاب(محور بلاغة الإيجاز وفصاحة الإنجاز)، ذهب مسار “التحليل والمفاتشة في اتجاه الحديث عن بلاغة الخطاب المولوي من خلال توصيف محددات الإيجاز والقوة الإنجازية للأفعال الكلامية، قبل تعقب القوة الإنجازية للأفعال والوقوف على الإدراك الملكي لمفهوم الأفعال اللغوية المباشرة وغير المباشرة، وتقويته للعناصر اللغوية وغير اللغوية أيضا، كما وردت مُتضمَّنة في أسلوب التوكيد والمؤكدات وسلطات جلالته التكلمية، والحُكمية والحاكمية والتوجيهية والتبليغية التي تجعل لمنطوقه هِبة وقوة مستمدتان من منزلة المؤسسة الملكية”.
كما تعمد صاحب الكتاب “التركيز على قيمة الإيجاز في النص المولوي بعيدا عن الشكل الذي يُدرَّس به الإيجاز باعتباره مبحثا من مباحث علم المعاني وعلما من علوم البلاغة، فتلمس أوجه الإيجاز والقيمة البلاغية لعدد من الشواهد النصية اعتمادا على التحليل المباشر للنص من خلال نظرة استقصائية داخل السياق وبمنأى عن النماذج المكررة لأنواع إيجاوز القصر وإيجاز الحذف او القذف التي تحفل بها ادبيات التوثيق البلاغي في حقول خطابية سياسية ونقابيّ هائجة مائجة مضطربة تأخذ البحث بالحدس والتخمين أكثر مما تأخذ بالقاعدة والتقعيد والتقنين”.
ولم يغفل الكتاب الحديث عن أنساق تواصل الملك مع شعبه، من خلال “ثنائية الرسائل والوسائل، حيث حَرِصت على تجاوز وسائط النسق الإتصالي الكلاسيكي للسلف التي أُفرِدت لها سلفا العديد من الكتب ، ليبسط الحديث بشكل حداثي عن القنوات والأوعية الإلكترونية الحديثة لضخ الخطاب الملكي الواعي في وعي الحقل الخطابي السياسي المتداعي، وعن منهجية المستشارين الإعلاميين للملك في استثمار الهِبة التكنولوجية لوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي للجم الهَبّة الإحتجاجية الجماهيرية في عدد من المحطات المفصلية”.
تعقب مؤشرات التفاعل مع خطابات ملكه المفدى دفع المولف إلى بسط “الحديث مسهبا عن فضاءات التفاعل مع العاهل وتوزعها بين تفاعلية المنظومة المشهدية ومجاز رد العاهل الفاعل على انفعالية النشطاء الإلكترونيين، والحركية والتكثيف الخطابي الملكي الذي يصاغ على عجل لمواجهة الحراك والحَركة والحْرْكَة الخطابية المضادة، من خلال الحديث عن المؤسسة الملكية بين:
-تجدد الرســـائل وتمدد الوســـائل؛
-التدوين الرقمي الرسمي ومدونات الإعلام الإسمي من خلال نموذج المُدوِّن أو سفيان البحري صاحب موقع “كريم روايّال”، وما استتبع ذلك من ترسيخ ملكيٍّ لثقافة السيلفي مع شعبه الوفي، خرق فيه جلالته ما عرف عن احتراز سلفه من إقحام عموم شعبه ومحبي العرش في الحياة العائلية للملك الراحل”.
كما تحسست انامل البحث والتحليل “تقاسيم ومورفولوجية الرسائل العنوانية الآنية الموازية (المتعاليات النصية) وحروف التشكيل وكذا الأداء البصري للشكل الكاليغرافي، فضلا عن خلفية الإبلاغ البصري وخلفياتها البلاغية ومهارة صناعة المعالجة الإعلامية، ودور الإشاريات الشخصية لجلالته”.
الحديث عن الوسائل والتعاطي الإعلامي مع الرسائل الملكية ساق المؤلف “لتوجيه بوصلة البحث والتحليل ولاستقصاء شَطر دور كتبة العرش ولفيف الإستشارة في الإشارة على الملك والتأشير على خُطب القصر وصاحب الإمارة، فضلا عن مهارات الصاغة في ترويج البضاعة في أسواق التداول الخطابي، وخبايا الأمور وما يدور ويمور في كواليس الكتابة وأوراش الصناعة والمعالجة الإعلامية للخطابات والرسائل الملكية، قبل أن يعرج في نهاية المطاف على محددات الإنسياق وراء خطاب ملكي بديل لخطاب سياسي ونقابي هزيل وهذيل.
وأن “الأشياء تُعرف بضدها”، أعمل صاحب الكتاب “منطق مقياس المقارنة المعيارية Benchmarking، فانطلق من الخطاب السياسي بمستواه الشعبوي، وتطرق لفجور الخصومة وما شهده ولم يحبذ الإستشهاد به (حفاظا على نفس المسألة مع فاعلي الحقل السياسي والتزاما بواجب التحفظ)من تبادل للتقريع في لحظات المقارعة والجدل البيزنطي بين أجيال العمل النقابي والسياسي، وما وفق في الوقوف عليه من محاولات بائسة ويائسة لكل فاعل سياسي في بناء نصية خطابية غير متماسكة، تستمسك بناصية كاذبة، وما يعرفه كل كرنفال انتخابي من توالي خطابات التحقير الآخذة بمسوح السخرية والتصغير والتشهير بمنتوج الغير، وما سجلته تلك المساجلات من التباس في الموقف وتلبس بتلبيس الخطاب الحزبي لبيلسة الآخر…وما تواريه من خطاطات تدافع من أجل المواقع والمنافع، والمناصب والمكاسب والمراتب.
بالمقابل، تطرق المؤلف “لمسالك التأليف ومناط رفع التكليف بصياغة خطابات ملكية لا تدافع فيها ولا دفاع ولا اندفاع، يجد المرء انها بحق خطابات ترافع، خطابات رفيعة بدل الخطابات الرقيعة، تترفع عن التدافع، وترفع سقف تداولها لتدويلها، خطابات متوثبة بدل الخطابات المتثائبة، في فصحى خطابها إفصاح عن الواقع دون رتوش أو سفسطة، يلقي فيها المتتبع تقليصا لمساحات الإبهام وتوسيعا لفسحة الإفهام، مع تغليب الإظهار على صناعة الإبهار أو تصنُّع الإنبهار، وإيثار التفسير على التبرير، والدأب الدائم على التحليل والتفكيك بدل الإنزلاق في مهاوي التشكيك… مع توزع الخطابات بين بنائية وبيانية، تأليفية وموقفية وأحيانا توفيقية لوقف النزيف وتبديد مساحات الزيف والتحريف الذي امتهنته بعض جيوب الفتنة وأزلامها وأذيالها واذنابها وعرابوها في سياق الربيع العربي وحراك الريف.