
بقلم دامي عمر
يعتبر الفرنسي بول ريكور من أكثر من تناولوا بالدرس العلاقة الملتبسة بين التاريخ والسرد، حيث يرى أن العلاقة بينهما وطيدة، ولا يتخلص السرد من التاريخ إلا كما يتخلص التاريخ من السرد، فكلاهما يتفاعل مع الآخر ويتواشج معه بشكل محكم، دون أن يعني ذلك أن التاريخ سرد ولا أن السرد تاريخ.وبما أن الرواية هي أكثر الفنون الأدبية اعتمادا على السرد، فقد أضحى من المُلّح طرح علاقتها بالتاريخ: هل يعتمد الروائي على التاريخ ويعيد كتابته بأدوات المؤرخ خدمة للتاريخ نفسه، محولا الرواية إلى درس ووسيلة لتعرف الأفراد على تاريخهم الجمعي؟ هل هي محاولة لإعادة الثقة بالتاريخ كموقف واضح لمثقف ما بعد الحداثة وقيمها؟ أم هي محاولة لاستحضار الماكان لفهم الحاضر والمستقبل واستخلاص الدروس والعبر؟ لقد تراكم في المكتبة العربية الكثير من الروايات التي كتبها أصحابها مسلّحين بمعرفتهم التاريخية وأسئلتهم الراهنة العميقة مما يجعلنا أمام ظاهرة لا بد من الوقوف عليها وفهمها يمكن أن ندرج رواية رقصة الفلامنكو للروائي المغربي الكبير الداديسي ضمن هذه الأسئلة العامة، مع الاعتقاد أنها ليست من نوع الروايات التي يطلق عليها السردية التاريخية والتي تعتمد أسلوبا يعلي الحقيقة التاريخية على فهم السارد وتخييله، فتجعل التاريخ مبلغَ همها ومنتهى اشتغالها، أي أنها لا تمشي في موكب كتابات جرجي زيدان، ولا رواية وزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب، ولا المعركة الكبرى لمولاي علي الصقلي، ولا الملكة خناثة لميكة اللوه… إن رواية “رقصة الفلامنكو” للكبير الداديسي، كما رواية “تغريبة العبدي” لعبد الرحيم الحبيبي، ورواية “جزيرة البكاء الطويل” لعبد الرحيم الخصار، و”ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي، ورواية “زمن الشاوية” لشعيب حليفي، و”هديل سيدة حرة” للبشير الدامون، ورواية “قمر فاس” لفضيلة الوزاني، ورواية “جارات أبي موسى” لأحمد التوفيق، وروايتا “المورسكي” و”ربيع قرطبة” لحسن أوريد، وروايتا “ثورة الأيام الأربعة” و”المغاربة” لعبد الكريم الجويطي ، ورواية ” المنسي” لمحمد عز الدين التازي…. هي روايات كثيرة تجعلنا نقف على الحقيقة التالية: إذا كان المؤرخ يحرص على عدم الخلط بين الأسئلة والأجوبة، ويعتبر الحدث لا يعاد، والحقيقة التاريخية لا ثاني لها، فإن وعي الروائيين أضحى راسخا في أنه إذا صار لزاما على المؤرخ أن يسبق الحاضر ويتطلع للمستقبل، في ما يسمى بالتاريخ الاستطلاعي، فإنه بجمع السرد والتاريخ، يصبح السرد التاريخي هو ذلك الاختصاص الذي يدور الكلام فيه عن العالم، موضوعه الأساس هو الانسان، فالمعرفة التاريخية في جوهرها صياغة سردية تطمح إلى إعادة تشكيل عالم الإنسان. أي إعادة تشكيل تجربة القارئ واقعيا بفضل إعادة بناء الماضي على أساس الآثار الباقية كما يرى بول ريكور. ولتخطي مشكلة الأنواع وصرامة الحدود بينها وهو أمر أضحى متجاوزا يقترح علينا عبد الله إبراهيم مصطلحا بديلا للرواية التاريخية هو مصطلح التخييل التاريخي، وهو مصطلح يتيح تفكيك العلاقة بين الرواية والتاريخ ودمجهما من جديد في هوية سردية جديدة. ورغم أن رواية رقصة الفلامنغو للكبير الداديسي تدخل ضمن النفاذ إلى التاريخ من نقطة الأعلام باستحضار شخصية تاريخية هي لسان الدين ابن الخطيب؛ صاحب الوزارتين، وعلم العدوتين، فإني آثرت استجابة لقصدية الرواية ــــ على الأقل في وعيي كقارئة لها ـــ أن أصنفها ضمن الروايات التي تشتغل على مجال المآسي، وما استدعاء الشخصية والمكان إلا لتقديم رؤية خاصة لما يجري، مما يمكن أن نرفعه إلى مستوى المأساة، المأساة في وعي الكاتب الذي طالما التبست شخصيته بشخصية السارد عدنان الغرناطي فسمعنا أكثر من مرة صوت الكاتب الكبير الداديسي المدرس الملتزم والمناضل الجمعوي والمثقف العضوي يعلق، يصحح وقد يحتج متماهيا مع السارد ومن تلك المآسي: – المأساة الأولى: يمثل لسان الدين ابن الخطيب والكاتب والسارد قوة أضحت تتوارى تاركة المجال لمنتوج هجين ضعيف متسلق عبر ثقافة شعبوية مستمدة من المهرجانات والملاعب والسوشل ميديا مدعومة بوسائل الاعلام وغياب البرامج الثقافية والسياسية الهادفة ، مستخفة بالثوابت والقيم … عن القوة التي يمثلها ابن الخطيب هي قوة المثقف الثابت على مبادئه رغم كل المحن والأهوال ؛ درعه الفكر والبراعة في الإقناع بقوة اللغة وفطنة المتمرس المجرب: ابن الخطيب معلما، ومستشارا، ووزيرا، وسفيرا، وكاتبا … ابن الخطيب الصديق والرفيق، المكرم المعزز والمبتلى المظلوم، والمنفي المغترب والسجين والقتيل الذي لا يتسع له سجن ولا قبر، ولا يطوى ذكراه دهر، فكان شاعرا لا يُنسى ، وسياسيا مفكرا لا يقهر… وما كل ذلك إلا إعلاء للمثقف وإكبار لدوره . يقول السارد في الصفحة 183 (لما كنت في فاس سخرتْ أليخندرا من حكاية النملة والصرار، واعتبرت رسالة لافونتين رسالة منتهية الصلاحية وعفا عنها الزمن… سخرت من القيم البالية التي تنص على المثابرة، الكد والتضحية في مرحلة صار نجومها من الصراصير، فلا شهرة تعلو على شهرة المغنيين، وعارضات الأزياء والراقصات، وما يقدمونه للاقتصاد العالمي رغم ضعف تكوينهم العلمي…) يأسف السارد لضياع القدوة، ويرى أن الوباء كان فرصة لإعادة الاعتبار للمعلم والثقافة، والوباء الذي بين أهمية الطبيب والمعلم، وحاجة الحياة للمخترع والمثقف ص 184 ليصبح السؤال هو: هل نحن بحاجة إلى كارثة كي نتخلص من البداءة والتفاهة، وكي يسترجع المعنى قيمته وشموخه؟ وهو أمر حظي بالتكرار في أكثر من موضع في الرواية ص39 – المأساة الثانية: يكتشف عدنان الغرناطي بطل الرواية أمام تفشي وباء كورونا وأرقام المصابين والموتى، وعجز الأنظمة على احتواء الوضع، أن انتصاره لما حققه العالم من تقدم وما بلغته البشرية من إنجازات مذهلة لا يعفيها من السقوط مرة أخرى في الأمراض الفتاكة، فها هو العالم يقف عاجزا أمام الفيروس التاجي، كما وقف في القرون الخالية عاجزا أمام الطاعون، يقول السارد ص174 (كنت كلما أشرت إلى الطاعون أو أي وباء آخر وأنا أحاضر في التاريخ، أستطرد وأقارن بين بعض الأوبئة وما يشهده التاريخ المعاصر، فأبدو أمام طلابي منتصرا للثورة الرقمية والثورات الصناعية والتكنولوجية أعطي أمثلة بما حقق الطب في العلاج بالصدى والرنين، وكثيرا ما تحدثت عن إجراء عمليات جراحية وعلاج عن بعد… وأؤكد لطلابي استحالة أن يعرف العالم لحظات مثل التي عرفها في العصور الوسطى…) بسرعة انتشر الوباء في أعالي البحار وفي الأماكن الأكثر انغلاقا، وبسرعة هوت الأنظمة كأنها من ورق، ووجدت البشرية نفسها تقف عاجزة تقدم الضحايا تلو الضحايا دون بارقة امل تلوح في الأفق.- المأساة الثالثة: عاش ابن الخطيب زمنا يعج بالمكائد والصراعات والانقلابات، أزهقت الأرواح وضيقت الحريات وصودرت الممتلكات وأحرقت الكتب… بينما على الحدود أعداء متربصون، وفي الداخل خونة ومتخاذلون مما كان سببا في ضياع الأندلس وهزائم أهلها المتتالية… هل التاريخ يعيد نفسه؟ إن الأحداث لا تعود لكن القوانين هي نفسها: الحدود مقفلة بين الجارتين المغرب والجزائر، النكبات لها نفس الوطء، قتل السادات، وسحل القذافي، وشنق صدام… الأعياد هي هي بلا طعم سوى طعم الخيبة والخذلان والهزيمة ص130- المأساة الرابعة: لقد ارتبطت مركزية الذات وإعلاء الفكر في المشروع الحداثي بمقولة ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود” وكان ذلك ردا منطقيا على ثقافة القرون الوسطى التي همشت الإنسان، وكبّلت حرية الفكر، ونصبت المشانق للمفكرين، وأضرمت الحرائق في كتبهم وإبداعاتهم… وجاءت الحداثة لأعلاء الفكر فأبعدت الدين، لكنها انتهت إلى نقض القعل ونفي الذات، وأظهر المشروع الفرويدي أن الشعور والعقل والإرادة ليست سوى ألفاظ زائفة تحمل تصورات ودلالات مهزوزة لحقيقة الذات البشرية، ويصبح الكائن الإنساني وفق هذا التصور مسيرا بفعل الدوافع اللاشعورية، ودوافع “الهو” الغريزية وتأتي الماركسية لتهمش مركزية إرادة الإنسان، بإعلائها للشروط والمحددات المادية، فجعلت الإنسان كائنا هشا مبعدا متحكما فيه. فعدنان الغرناطي الأستاذ الجامعي المثقف الأب والصديق العطوف، والزوج المخلص المحب لا يصمد أمام نزوة عابرة كادت تدمر حياته بسبب علاقته مع أليخندرا التي انقاد إليها كمتسرنم فاقد الإرادة، في نفس الوقت هو ضحية لخيانة لم تكن له الجرأة لتتبع خيوطها …. في رواية رقصة الفلامنكو تختلط القيم وتنشأ شبكة من العلاقات المعقدة تُسقط الإنسان في القلق والضياع والعزلة … إنها مأساة وجودية رسم الكاتب خيوطها بالاسترجاع والتقصي والمتابعة والمقارنة لماذا هذا الاستحضار القوي للماضي يقول السارد (عندما تحاصرنا الوحدة نغوص في الذكريات) شعور يجعل من الفلامنكو مفتاحا مركزيا في فهم هذا التداخل بين الرواية والتاريخ، إنه شعور مرير يستبد بالإنسان المنكوب في حاضره، كما كان منكوبا في ماضيه، نفس القوانين تؤدي إلى نفس النكبات، رغم اختلاف الأحداث والأمكنة والأشخاص، آلة تعيد نفسها في دورة راقصة، تشبه رقصة الألم التي مهما حولناها إلى مشهد فرجوي احتفالي فستظل تمثل في العمق ألف الفلاح المنكوب. لا فرق في العمق بين القرون الوسطى والقرن الواحد والعشرين.يجد الكاتب نفسه أمام تحد كبير، كيف تستفيد الرواية من موضوعية السرد؟ وكيف يستفيد السرد من التخييل الروائي؟ والحق أن الكاتب نجح بمهارة في الحفاظ على الحدين دون السقوط في براثين التاريخ، والاعتكاف داخل صومعته، ولا الضياع في مفازات التخييل والغلو فيه وذلك بالاعتماد على ما يلي: أولا: كسر الكاتب برودة السرد التاريخي بإسناد السرد للشخصية المركزية ذاتها مستعملا ضمير المتكلم، باثا في لسان الدين ابن الخطيب الحياة مما جعل هذه الشخصية قريبة مؤثرة عبر تقليص المسافة بينها وبين المتلقي، كما أنه اعتمد تقنية المشهدية عوض رواية الحدث، كمشهد مقتل السلطان المريني أبي حجاج ص 100، ومشهد حرق كتب ابن الخطيب في ص 163 وغير ذلك من المشاهد الكثيرة التي تؤثث الرواية، وربما يعود ذلك إلى كون الكاتب مولع بالسينما ومخرج لأفلام قصيرة تعتمد هذه التقنية الفعالة والتي تقدم الحدث لا كمروية ولكن كمشهد حي بكل تفاصيله وحيثياته، والمشهدية كما هو معلوم تعمل على رفع إيقاع السرد وتسريعه مثلما يفعل القطع والتلخيص، كما استعمل الكاتب في رواية “رقصة الفلامنكو” أسلوب المقارنة لتبرير حضور التاريخي، وتسويغه وفق استراتيجية المحكي التي يشرك فيها المتلقي، ويترك له بياضات واسعة لاستخلاص الدروس والعبر، وترتيب المشاعر والانفعالات… ثانيا: استفادت الرواية من التاريخ، أولا على مستوى الحكاية ويمكن التحقق من أسماء الشخصيات والأحداث والتواريخ وأسماء الأمكنة وأسماء النباتات والأطعمة والألبسة والعادات والتقاليد، ومن تاريخ الأوبئة وأخبار الطب وقصاصات الأخبار، والمرويات الشعبية والنصوص الأدبية… وعلى مستوى الخطاب اعتمد السرد كرونولوجيا مضبوطة في عرض الأحداث وتواليها وهو ما يسمى بمبدأ المحاكاة، أي محاكاة الأحداث كما جرت في واقعها، مستفيدا في كثير من الأحيان من تقنيات اليوميات أو المذكرات بما في ذلك ضمير المتكلم، سواء في السرد التاريخي أو السرد التخييلي.ولمزيد من الصدق التاريخي تستوقفنا اللغة في المحكي الاسترجاعي والتي تنحو منحى مختلفا عن لغة الحاضر (لغة عدنان الغرناطي) فلغة ابن الخطيب تمتح من الأساليب البلاغية للغة العصور الوسطى وتضفي عليها من حلل البلاغة ما يجعلها تذكرنا بالأسلوبية العربية القديمة.لقد حاول الكاتب الكبير الداديسي في رواية “رقصة الفلامنكو” سواء باستحضار التاريخ، أو اجتراح أحداث من صميم الواقع المعيش، أن يحقق البعد السوسيولوجي للرواية باعتبارها كما يرى جورج لوكاتش “بحث منحط… بحث عن قيم أصيلة في عالم منحط هو الآخر لكن على صعيد متقدم بشكل مغاير ووفق كيفية مختلفة” تعيد رواية رقصة الفلامنكو تشكيل الواقع من خلل التخيل التاريخي وتشتغل على الحياة وتفاصيلها فيما هي أحداث عامة يمكن أن تشكل محكيا تاريخيا، كما كان من الممكن أن تسقط في المنسي الإنساني لولا الرواية، لتبقى هذه الرواية في النهاية منظورا جماليا لما هو تاريخي، ويبقى الحاضر والمستقبل فيها أهم من الماضي؛ وإن كانت تستدعيه وتشتغل عليه، فالكاتب لم يكتف بسارد يحكي عن ابن الخطيب وهو عدنان الغرناطي أستاذ التاريخ المتخصص في العصر الوسيط ، بل إنه جعل العمل الروائي يقوم على خطين متوازيين : خط سرد الحاضر وتنهض به شخصية عدنان بضمير المتكلم، وخط سرد الماضي وينهض به لسان الدين ابن الخطيب بضمير المتكلم أيضا ، والخيط الرابط بينهما هو المأساة التي تتمثل أساسا في ذلك التراجع المرير لدور المثقف الذي توارى للظل في مرحلة “صار نجومها من الصراصير، فلا شهرة تعلو على شهرة المغنيين، وعارضات الأزياء والراقصات…” ص 183