د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
هل يمكن للروايات والأفلام أن تكون مصدر تأثير في المجتمع، ومصدر فهم تحولاته الأمنية، وتلهم الحكومات بتعديل بعض القوانين الأمنية كالجريمة والسجون والانحراف، وتغيير بعض قوانين العمل والأسرة، بسبب إلقاؤها الضوء على ثغرات قانونية، ثم يتم تضخيمها فنيًا لإظهار عمق تأثيرها على استقرار المجتمع. وهل يمكن أن تكون الروايات والأفلام مادة خام للعاملين في الضبط والتحقيق والترافع والادعاء لفهم عمق الأحداث وقوة ترابط الأحداث الرئيسة بالفرعية، ومصدرًا للتطوير المهني الرفيع؟
تعد الجريمة أحد أهم فروع الروايات؛ وذلك لما تحمله من إثارة وغموض وتعقيد في التفاصيل، يدخل فيها القانون والتاريخ والتجسس والضغط النفسي وتتبع خيوط الأحداث التي تقود إلى أحداث لا علاقة لها بالحادث الأول، واختفاء الحقائق حتى نهاية الرواية. ونظرًا لكثافة الكتابة الروائية لهذا النوع من الأدب، أطلق عليه مصطلح “أدب الجريمة”، وهي عبارة عن مسرح أحداث، متضمنًا محاضر تحقيق وتقارير التحري، وأساليب المجرم في إخفاء الأدلة، ولكن يتم عرضها بأسلوب أدبي وسردي مطول، ويغلب عليها طابع الخيال الأدبي من الروائي، كما تحولت كثير من الروايات إلى أفلام سينمائية، وكان لبعضها انعكاس على القوانين الأمنية وعلى اهتمام المؤسسات الأمنية على تحسين صورتها الذهنية في المجتمع من خلال أدب الجريمة.
وإذا اطلعنا على قائمة الروايات الخالدة في تاريخ الأدب ستكون الروايات التي تحمل في مضامينها قضايا الجريمة والأمن والسلام، من أبرزها “الحرب والسلم” للروائي الروسي ليو تولستوي، وهي تحلل الدوافع النفسية والظروف الاجتماعية للحروب، و”الجريمة والعقاب” دوستويفسكي، ورواية “موعد مع الجريمة” للروائي دين كونتز، وهي تركز على العوامل النفسية لاتخاذ القرار الأمني تحت ضغط الوقت والتهديد والابتزاز، ورواية “الكرنك” لنجيب محفوظ، وهي تحكي قصة فساد الأجهزة الأمنية، و”الجريمة” وهي مجموعة قصصية بوليسية لنجيب محفوظ أيضًا، إضافة إلى الروايات البوليسية لأجاثا كريستي مثل “جريمة في القرية” و”جريمة في قطار الشرق”، وروايات الألغاز والغموض المحير للمؤسسة الأمنية لدان براون مثل “شيفرة دافنشي”. وتتميز كل رواية بابتكار شخصية خيالية تتمتع بقدرات خارقة؛ إما في التحقيق أو التخفي أو وضع الأسئلة المحيرة التي تزيد من تعقيد الأحداث الواضحة.
إذن؛ يمكن القول بوجود مادة علمية رصينة صالحة للتحليل الأمني ودراسات الجريمة والانحراف والغموض، كما هو الحال في دراسات المجتمع والاقتصاد من خلال الرواية.
تكمن أهمية البحث عن الأمن في روايات الجريمة أنها سجل من مسرح الأحداث، مستوفيًا أركان التحقيق الأمني، ولكن بأسلوب أدبي رفيع، بل تتميز الروايات عن سجلات التحقيق في أنها تغوص في أعماق النفس البشرية، وتلتقط زوايا يعجز المتخصص الأمني عن التقاطها؛ وذلك لأن المحقق عادة ما يقوم بدور “أداتي” متمركز حول القانون، ولا يعنى بالظروف الاجتماعية والاقتصادية ولا مبررات المجرم أو المذنب رغم أنها تعد منجمًا لفهم المجتمع ومصدرًا لتطوير القوانين الحقوقية، ومصدرًا للعاملين في مجالات التحقيق والنظر في قضايا الجرائم والانحراف، إلا أنها مصادر لم تتحقق الإفادة منها كما ينبغي.
وقد نلحظ تأثر جدلي في العلاقة بين أطراف أدب الجريمة؛ حيث يبدع الروائي بخياله في سرد الرواية وابتكار شخصياتها وأحداثها، وإذا تحولت إلى فيلم يضطر المنتج أن يستعين بمحققين وعسكريين لمراجعة مستوى دقة المشهد التمثيلي ومدى استيفائه للإجراءات المعمول بها في التحقيقات والتحري، وإذا نشر الفيلم فإنه من المحتمل أن يؤثر في المجتمع، ويبني صورة ذهنية عن الثغرات والأخطاء التي تقع في التعامل مع المجرمين، ومن ثم يبدأ الكُتّاب يركزون على واقعية هذه الثغرات والأخطاء، كما يتحدث الناس في الشوارع والمقاهي والمجالس عن قصص عايشوها تؤكدها، مما يشكل ضغطًا على المؤسسة الأمنية لمراجعة بعض أنظمتها، وهكذا تكتمل دورة حياة أدب الجريمة وعمق العلاقة التبادلية بين الأدب والقانون والأمن، وقد عدلت قوانين نتيجة تأثير أفلام، مثل فيلم روزيتا (عرض عام 1999)، وهو فيلم بلجيكي يحكي عن قصة هروب الفتاة روزيتا وإدمانها للكحول الذي جعلها تقبل بعمل بأجر زهيد، وعدل القانون بعد تأثيره بمساواة أجور المراهقين بغيرهم من العاملين.
ومن الأفلام العربية فيلم “جعلوني مجرمًا” (عرض عام 1954)، وهو يحكي قصة واقعية تسببت في تحطيم حياة شخص بسبب سجنه ثم عدم تقبل المجتمع له عند الجناية الأولى، والذي تسبب في قانون الإعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية، من أجل منح المذنب فرصة عدم التمادي، وفيلم “كلمة شرف” (عرض عام 1973)، وقد عدلت قوانين بالسماح للسجين بالخروج في الظروف الاجتماعية الاستثنائية لأقاربه كالزواج والوفاة والمرض، وفيلم “أريد حلًا” (عرض عام 1975)، الذي تسبب في سن قانون الخلع.
ونتيجة لهذا التأثير التبادلي الكبير بين الأدب والجريمة والأمن، اتجهت المؤسسة الأمنية في أمريكا لإنتاج أفلام وثائقية من قضايا حقيقية، ونشرت سلسلة أفلام بعنوان “ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI” (بدأ النشر منذ 1996)، وقد أسهمت في تحسين الصورة الذهنية الشعبية لنشاطها، كما ظهر اتجاه جديد في السعودية حول تحويل الملفات الأمنية الواقعية إلى أفلام، وأنتج فيلم “حصار مكة” (عرض 2019)، وهو يحكي قصة حدثت عام 1979، ومسلسل “رشاش” (عرض 2021)، وهو يحكي قصة واقعية حدثت عام 1987، وقد أثرت في المجتمع وتضمنت نقلا فنيا لوجهة النظر الأمنية.
وهذا يلفت الانتباه إلى توسيع نطاق إنتاج الروايات والأفلام لتشمل القصص المثيرة في المجتمع، وخاصة ظاهرة بناء الثروات وتحولاتها، وحروب الشركات الكبرى والاحتكار، وما تتضمنه من عوالم غسل الأموال والجرائم المالية والاستثمارات الوهمية لسرقة الشعوب.
يساعدنا جورج لوكاش في “نظرية الرواية” على فهم شروط الرواية الجيدة المتمثلة في إبراز حالات العقل والأحداث، وينبغي أن تتقدم الأحداث ببطء، وأن تركز على مشاعر البطل، وأن يكون البطل سلبيًا وغير نشط إلى أعلى مستوى؛ وذلك بهدف إبراز صورة العالم المتعاظمة من حوله وعلاقته بها، كما أن البطل النشط يدفع بأحد التناقضات في المجتمع إلى أقصى حد[1]. وهذه الفضاءات تسهم في فهم نفسية المجرم ورؤيته للحياة وللعالم ولجوئه لتبرير سلوكه حتى تخف حدة التناقضات في داخله، مما يؤكد على أن العلوم الاجتماعية عليها أن تستمد من أدب الرواية والأفلام مادة اجتماعية ونفسية وقانونية ثرية، وتحويلها إلى مناهج عمل في المؤسسة الأمنية والعدلية.
وقد كانت الرواية صناعة نخبوية، ولا يكاد يكتبها إلا أصحاب الطبقة العليا، وبرز نوع من أدب المهجر في القرن العشرين بعدما اشتدت القبضة الأمنية في الشعوب العربية، وصار الأدباء يكتبون الروايات والقصص والأشعار؛ إما للمقارنة بين مجتمعين أو الحنين إلى الوطن، وهذه مسألة أمنية كبيرة، ولكنها بلا أركان للجريمة، ومن أشهر روايات هذا الاتجاه “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي السوداني الطيب صالح.
كما اتجه الجهاديون الذين برزوا في الحرب الأفغانية (1979- 1989)، ثم تنقلوا للمشاركة في الحروب في البوسنة والشيشان وغيرهما، ثم تعرضهم للملاحقات الأمنية والدولية إلى إنتاج أدب خاص بهم يسمونه “أدب المطاريد”، يشرحون فيه مبرراتهم، وينقلون خبراتهم، ويتداولون مواقف اجتماعية ونفسية مهمة، مما يعزز وجود ظواهر أمنية، بمفهوم الأمن الواسع، تنتج أدبًا لصيقًا بالمؤسسات الأمنية والحقوقية والعدلية، ويعد مادة واقعية جديرة بالتحليل والدراسة والفهم، ومن أبرز المنتجات المعرفية في أدب المطاريد سلسلة كتب مصطفى حامد، مثل “السائرون نيامًا” وكتاب “15 طلقة في سبيل الله”.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت توسعًا ملحوظًا في دخول جميع الطبقات الوسطى والدنيا لعالم الرواية، مثل الروايات التي يصدرها أبناء الجاليات الذين يكتبون روايات تقارن بين مجتمعاتهم الأصلية والمجتمعات التي انتقلوا إليها، وتحكي معاناتهم، والروايات التي يصدرها أبناء المهمشين، وتظهر فيها كثير من ملامح أسباب الحقد على المجتمع، ولكن على لسان شخصيات الرواية، وهذا مدخل جديد ومهم لفهم التحولات الاجتماعية.
الجريمة والعقاب
تعد رواية الجريمة والعقاب من أشهر روايات الأدب العالمي، ويمكن تلخيصها في شخص يدعى راسكولينكوف قتل مرابية ليستولي على أموالها ثم قبض عليه، ولكن الروائي صاغ هذا السطر في مسرح أحداث يتكون من ألف صفحة، وحلل ما يدور في العقل الباطن لأشخاص الروايات، حتى قال رائد طب النفس الحديث فرويد: إنه استلهم تحليل بعض الحالات العصابية النفسية من روايات دوستوفيسكي؛ وذلك لأنها حقائق، ولكنها لم تمر عليه في عيادته ولا في المصادر النفسية.
اشتهر راسكولينكوف عالميًّا، وهو شخصية وهمية في الرواية، إلا أنه يعكس واقع ملايين الشباب عبر التاريخ الذين يعيشون صراعًا داخليًا مع حدة تناقض المجتمع الذي يدعو للفضيلة ويمارس الرذيلة، حيث أن راسكولينكوف شاب جامعي من أسرة فقيرة في الريف الروسي، ولكنه يعيش بقيمه وأخلاقه الرفيعة، ويتسم بالحساسية والانطوائية عن المجتمع، ويتمتع بذكاء يمكنه من الحصول على وظيفة، إلا أنه ارتكب جريمة بقتله عجوزا مرابية؛ ليسرق مالها، وينقذ فقر عائلته، ويحمي مئات من المديونين لها، وقد ساعده حدة ذكائه على إنتاج مبررات أخلاقية وعقلانية منطقية ومتماسكة، ثم تعرض لخبرات الحياة وبناء علاقات اجتماعية جديدة التي كانت تزيد من قلقه وتلهمه بشكوك في جدوى مبرراته، حتى أحب سونيا، وهي أيضًا شخصية بريئة وعفوية ومن أسرة فقيرة، ولكن الفقر اضطرها للعمل في الدعارة من أجل لقمة العيش. والمفارقة بينهما أنه رفض الواقع، وارتكب جريمة لإصلاح الفساد بفساد مبرر، وهي تقبلت الواقع، وتحملت أقسى أنواع الإهانات، وهي التي أقنعته أن يسلم نفسه للعدالة، ويسجن في سيبيريا.
تكمن عظمة الرواية في كمية الحوارات العميقة بين شخصيات الرواية، والقدرة المذهلة في إنتاج مبررات منطقية لمواقف غير منطقية، وحجم الفروقات الذهنية بين الإدانة والتفهم، مما يؤكد على ضرورة مراعاة الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وأهمية التعرف على رؤية المجرم لنفسه والمجتمع والدولة والعالم.
ويوجد عوامل أمنية صامتة في أحداث الروايات، مثل استيعاب الشخص لحجم التفاوت بين واقع المجتمع وبين قيمه الاجتماعية والأخلاقية التي يدعو لها، ومثل غياب العدالة، وعدم كفاية الأنظمة والقوانين أو انخفاض هيمنتها على المجتمع أو اتساع قابليتها للتأويل المتناقض، فكل هذه الوقائع تتسبب في أزمات تضغط على المجرم لارتكاب جريمته، ولكل طبقة أنواع من الجرائم الخاصة بها، من مختلف الطبقات الاجتماعية الدنيا والوسطى والعليا.
وهنا يمكن التقاط أن من طبيعة البشر احترام القوي، وأن المبدأ لا يخضع بالكامل لنظرية الحق والباطل، وأن كثيرًا ممن يدعون إلى القيم إنما يدعون لها من منطق المثالية وبلوغ الكمال؛ ولكنهم إذا أتيحت لهم فرصة السرقة الآمنة، فإن بعضهم يلجأ لها وينتج مبررات تشرعنها، وأن المبررات المنطقية والقوية تعد لاعبًا مهمًا في فهم الأحداث وتوجيه سياقاتها.
أخيرًا، تعد الروايات والأفلام منجمًا ضخمًا للعلوم الاجتماعية والإنسانية والأمنية ودراسات الجريمة، فهي تقع في منطقة وسط بين الواقع والخيال والأدب والعلوم الاجتماعية والأمنية والحقوقية، وتسهم في توسيع مدارك القضايا بشكل لا تسعفنا به الدراسات المتخصصة والأكاديمية، كما أنها أحد مصادر إنتاج النظريات الاجتماعية والأمنية، ويمكن عدها مجتمعًا ثالثًا بعد المجتمع الواقعي والمجتمع الافتراضي، إلا أنها تزودنا بالسلوك والأفكار والأحداث، ولكنها من إنتاج الخيال الفلسفي والتاريخي.
وتمتاز الروايات بأن الروائي يمكن أن يقول على لسان شخصيات روايته ما لا يجرؤ أحد قوله في المجتمع. وتوسع نطاق العلاقة بين أنواع الجريمة والطبقات الاجتماعية، وتحلل أسباب الإدانة الشعبية للمجرمين واللصوص الفقراء، بينما تلتزم الصمت أمام المجرمين واللصوص الأقوياء، بل تمجد المجرم الذي تعجز عنه السلطات الأمنية، ويتحول إلى أسطورة شعبية. كما أن واقع الجرائم والاحتيالات الكبرى من الأشخاص والشركات تعد منجمًا ملهمًا أيضًا لإنتاج الروايات والأفلام.
وتؤكد نماذج الروايات والأفلام ومبرراتها المشار إليها، أنه من المهم أن يدخل أدب الجريمة في مناهج الدراسات الأمنية والعسكرية والحقوقية والعلوم الاجتماعية، ودعم الدراسات الأكاديمية والثقافية لاستخراج نظريات ومفاهيم جديدة في فهم الجريمة والانحراف من تحليل مسرح أحداث الروايات وحوارات شخصياتها؛ بل ومن جميع المنتج المعرفي الأدبي كالقصص والملاحم والأساطير وأفلام الجريمة إذا كان السيناريو المكتوب فيها يحمل عمقًا كما تحمله الروايات.
[1] جورج لوكاش، نظرية الرواية وتطورها، ترجمة نزيه الشوفي، 1987، ص 26
المصدر:انتروبوس