إن المجلس الوطني للصحافة، وأنا أصر على تسميته بالمجلس وليس باللجنة المؤقتة كما يحلو للبعض تسميته، ذلك أن تحوله من مجلس منتخب إلى لجنة مسخرة بالرغم من إحداثها بمرسوم قانون، فإنها لا تعدو مسرحية مكشوفة الحبكة، تدور أحداثها حول خيانة الديمقراطية والالتفاف على الشرعية، أتقن بطولتها ممثلون بارعون في أساليب التضليل وتغليط الرأي العام والكذب على الدولة، حيث عمل بطل المسرحية على تغيير حقائق وأحداث النص المسرحي وتحويل نسقه الدرامي من نهاية مأسوية نتيجة لما تقتضيه أحداث الخيانة العظمى للديمقراطية وانتهاك الشرعية إلى نهاية سعيدة ينتصر فيها الاستبداد المهني والاستقواء السياسي والاحتكار الحزبي.
إن سياسة تضليل الرأي العام المهني والوطني وتغليط الحكومة والقطاع الوصي التي ينهجها المجلس الوطني باتت مفضوحة ومكشوفة، ونحن داخل الكونفدرالية المغربية لناشري الصحف والإعلام الإلكتروني كنا السباقين بمعية شركاءنا إلى فضح ممارسات هذا المجلس ونوياه الرامية إلى الاستيلاء والانقضاض على هذا التنظيم الذاتي. وما اعتراضه على تجديد مكتبه وهيكلته التنظيمية في موعدها وإصراره على تمديد ولايته لمدة 6 أشهر، ثم فكرته المريبة بإحداث لجنة مؤقتة مدة صلاحيتها سنتان، إلا دليلا على أن الأمر لم يأتي اعتباطيا أو عفويا وإنما كانت ثمة خطة جهنمية مدروسة، متفق عليها مسبقا، للإطاحة بالناشرين وإعادة هندسة الهيكلة التمثيلية والاستلاء على قيادة المجلس لسنوات قادمة من طرف ممثلي هيئته النقابية. ولتحقيق ذلك لابد من القيام بأولى الخطوات وهي الدعوة إلى تعديل القانون، عبر مقترحين لا ثالث لهما. المقترح الأول يتمثل في الإجهاز على المادة (5) من قانون المجلس الوطني للصحافة، التي تعطي الحق للناشرين في الترشح لرئاسة المجلس بالتناوب. أو عبر المقترح الثاني الذي يدعو إلى اسقاط نظام الاقتراع واعتماد نظام الانتداب لتعيين بعض أعضاء المجلس بمن فيهم الرئيس. ويبدو أن المجلس أعد خطة أخرى بعد فشله في المرة الأولى، حينما تجرأ على ملك البلاد وأراد إقحام جلالته في مشاكل مهنية. إذ عمل هذه المرة على إعادة صياغة مقترحه بطريقة أخرى، مع الاحتفاظ بنفس الغاية. حيث يستهدف في خياراته الثانية رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي النواب والمستشارين، لإقناعهم على انتداب رئيس المجلس الوطني للصحافة وتعيين بعض أعضاءه، وفي مقدمتهم رؤساء بعض اللجن. والسؤال المطروح، كيف استطاع مجلس مكون من 21 عضوا، ودعنا نحدد العدد بدقة متناهية، ونعيد السؤال: كيف استطاع 6 أعضاء من هيئة نقابية، وعضو من اتحاد كتاب المغرب ينتمي بدوره إلى نفس النقابة، أن يقنعوا الحكومة والبرلمان بغرفتيه، بالعدول عن إجراء الانتخابات الديمقراطية وتعيين لجنة مؤقتة لتسيير شؤون صحافة بلاد بأكملها؟ وحسب تتبعنا لما يجري في الساحة السياسية الإعلامية، وقراءتنا لما وراء سياسة ومنهجية وقرارات المجلس الوطني للصحافة، يتبين أن بعض أعضاء هذا الأخير استغلوا المواقف السلبية السائدة لدى المسؤولين وعموم المواطنين، حول ما ينشر على المواقع الالكترونية من فضائح وابتدال وإساءة وانتهاكات الخصوصية. وأوهموهم بإيجاد الحلول والقضاء على مثل هذه المواقع اللامهنية واللاأخلاقية. كما أوهموهم على أن الصراع القائم بالمجلس ليس صراعا مهنيا أو تنظيميا، وإنما هو صراع من أجل تنقية المهنة وتأهيل قطاع الصحافة. مستغلين بذلك الوضع المتأزم الذي ألت إليه صحافتنا الوطنية، لتصفية حساباتهم مع المهنيين الشرفاء والصحافيين النزهاء والمقاولات الإعلامية الجادة والتنظيمات المهنية الغيورة. ودعنا نقول لتصفية وإقصاء وتهميش من يفوقونهم على جل المستويات المهنية والعلمية والثقافية والأخلاقية. والحال أن المسؤول الأول والأخير عن أزمة المحتوى الإعلامي، والفوضى التي آلت إليها صحافتنا الوطنية في ظل تداعيات التكنولوجيا الرقمية هو المجلس الوطني للصحافة نفسه، بل إن غالبية أعضاءه المسؤولين عن تدبير المهنة اليوم، هم الذين كانوا بالأمس أنفسهم مسؤولين عن الإعلام لأكثر من 20 سنة. فماذا قدموا خلال كل هذه السنوات؟ وماذا أصلحوا في هذا القطاع؟ وما هي القيمة المضافة التي أضافوها للمشهد الإعلامي الوطني؟ وبعبارة أخرى، من المسؤول عن إنتاج هذا الوضع المتردي للإعلام إن على المستوى المهني أو التنظيمي؟ والسؤال اللغز والمحير والذي يفرض نفسه على الساحة السياسية والمهنية، هو، كيف تعول الدولة على من فشلوا طيلة زمن الصحافة الكلاسيكية، بل على من لا يمارسون المهنة ولا ينتجون أي محتوى إعلامي، أن ينهضوا بقطاع الصحافة الوطنية خاصة في زمن الإعلام الإلكتروني؟بالنظر إلى سياسة المجلس الوطني في محاربة الوضع المتسيب والمتردي الذي أنتجته بعض الصحف الإلكترونية، سنجده يفتقد لأية مقاربة سياسية مهنية أو استراتيجية واضحة المعالم. فكل ما لديه في معالجة أزمة التشهير وانتهاك الخصوصية والفايك نيوز هو استغلال ورقة البطاقة المهنية كآلية زجرية، مع العلم أنها آلية ضعيفة وغير مجدية لا يمكنها ضمان وتوفير صحافة وطنية جادة ومسؤولة. بل حتى توظيف شرط الإجازة للرفع من مستوى المنسوب الثقافي الإعلامي، كان شرطا اعتباطيا ولم يحد من نزيف الأزمة الأخلاقية. لان الفساد والجريمة والانحلال ليس حكرا على الأميين وعموم الناس ذوي المستويات التعليمية المتوسطة. إذ تعج السجون كذلك بمثقفين ودكاترة وأكاديميين ومحامين وصحافيين وقضاة ووزراء وبرلمانيين ورؤساء جماعات حضارية وغيرهم من المسؤولين والموظفين والمثقفين، بعضهم متابعين بجرائم الفساد والاغتصاب وجرائم المال العام وجنايات القتل والانحلال والدعارة، وغيرها من الأفعال الجنائية التي يعاقب عليها القانون. وبالتالي فإن المعرفة والشهادة العلمية غير كفيلتين بإنتاج مواطن صالح أو مهني مسؤول، وإنما الوعي والتربية والأخلاق هي القيم الوحيدة الكفيلة بضمان مجتمع متخلق وصحافة محترمة. لأن الصحافة أصلا هي مجال اجتماعي إنساني يتأسس على القيم والمبادئ، ومن تم تعتمد في معالجتها على المنهجية الأنطولوجية وعلم الاجتماع. بينما أزمة الصحافة الرقمية ومعالجة ما تنتجه بعض المواقع الإلكترونية من ابتدال وزندقة وفضائح وإساءة وانتهاك أعراض الناس، تقتضي في الحقيقة مقاربة سياسية تربوية وأخلاقية، ومنهجية مهنية تنظيمية وتقنية، ترتكز – بالنظر لطبيعة الصحافة الرقمي/صحافة التشهير- في المقام الأول على أخلاقيات المهنة كقاعدة أساسية، وبيداغوجية الاتصال والمعلومات، ومنظومة التكنولوجية الحيوية وثورة الذكاء الاصطناعي. إضافة إلى اعتماد مقاربة تشريعية إصلاحية وتأهيلية وليس زجرية وعقابية. لأننا أمام مشروع إعلام اجتماعي تربوي، يخدم الصالح العام الوطني، ويساهم في تهذيب الحس المجتمعي للأجيال القادمة. مشروع إعلام لا يقل شأنا عن الرسائل النبيلة لوظائف التعليم. وبالتالي فإن المجلس الوطني للصحافة في حد ذاته هو عبارة عن مدرسة مهنية تربوية تقتضي الإصلاح والتأهيل والإدماج المهني، وليس دائرة أمنية تقتضي الزجر والعقاب وفق مقاربتها الأمنية.فأين المجلس من كل هذه المقاربات والتطورات التكنولوجية للإعلام؟ أين المجلس من صحافة يمتزج فيها العقل البشري بالذكاء الاصطناعي؟أين المجلس من محتوى إعلامي اختلطت فيه الحقيقة بالكذب، والأخبار الواقعية بالافتراضية؟أين المجلس من صحافة يصنعها المواطن بعد ان كانت هي من تصنع الرأي العام وتشكله؟ أين المجلس من هذا النقاش الجاد والمسؤول؟ للأسف فاقد الشيء لا يعطيه، ثم لا حياة لمن تنادي، فحصيلة المجلس بدون إنجازات تذكر، إذا ما تتبعنا مساره طيلة هذه سنوات الست سنجد بمنأى عن كل هذه التساؤلات والمقاربات والتحولات التي يعرفها قطاع الإعلام والتكنولوجيا، مجلس ليست له نية الإصلاح أو التناوب على التأهيل، ولا يفهم إلا سياسة الإقصاء والاحتكار والحفاظ على المناصب، والامتيازات والتعويضات التي يوفرها الدعم العمومي والتي تفوق أجرة وتعويضات وزراء الحكومة. مجلس محدود الكفاءة والمعرفة، اختزل الإعلام في بطاقة الصحافة، يسعى إلى تكريس الابتدال الصحافي للحفاظ على الأزمة، فكلما تعمقت الأزمة كلما استمر في احتكار المناصب، واستثمر في الوضع القائم. في محاولة منه لتوهيم الدولة والرأي عام الوطني والمهني على أن أعضاءه هم وحدهم القادرون على حل هذه الأزمة، في حين أنهم هم أنفسهم يشكلون أصل الأزمة.وخلاصة، على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها فيما يجري في الحقل الإعلامي ببلادنا، وأن ما يترشح من صراعات واحتقان بين بعض أعضاء المجلس الوطني للصحافة الذين تمسكوا بكراسي العضوية، وبين الهيئات المهنية والمقاولات الإعلامية التي تطالب بحقها في التناوب على الرئاسة، قد يأتي لا محالة على كل المكتسبات التي راكمتها الدولة في مجال الصحافة والنشر. وأن سياسة التفرج والحياد السلبي الذي تنهجه الحكومة سيزيد وضعية الإعلام الوطني تأزما، والخاسر الأول هي الدولة ثم المواطن وبعده المهنيون. والسبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو تجميد اللجنة المؤقتة، والدعوة إلى حوار وطني مهني، تنخرط فيه جميع القوى الحية المهنية والحقوقية والجهات المعنية. كما تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كما نص عليها الدستور، ومساءلة اللجنة المؤقتة والمجلس السابق عن مآل الملايير التي تم صرفها في إطار التنظيم الذاتي للمهنة، ومحاسبة كل من يحاول الاستهتار بهذا المشروع المهني والتحايل على الدولة والمهنيين للاستلاء عليه.