.بقلم : زكرياء بلحرش
“إن إفريقيا بدون فرنسا هي مثل سيارة بدون سائق، كما أن فرنسا بدون إفريقيا هي مثل سيارة بدون وقود”. هكذا وصف عمر بونغو الرئيس السابق بجمهورية الغابون، الذي توفي في 8 يونيو 2009 بعد نحو أربعة عقود قضاها في السلطة، طبيعة العلاقات المتبادلة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في دول غرب إفريقيا. بيد أن هذه العلاقات أصيبت بجرح غائر وضعها في حالة موت سريري بعد تكرار سيناريو الانقلابات العسكرية في عقر دار الفرنكفونية والتي بدأت بانقلاب مالي عام 2020 وآخرها -حتى الآن- انقلاب الغابون الذي أطاح بحكومة علي بونغو في 30 غشت 2023.إن الرحيل السياسي للرئيس علي بونغو – الذي وُضع قيد الإقامة الجبرية مع كبار المسؤولين الآخرين، وفقاً للنظام العسكري الجديد – يتناسب مع نمط الانقلابات في دول إفريقيا الناطقة باللغة الفرنسية في السنوات الأخيرة. إننا أمام نفس المشهد المتكرر وكأن الجميع يقرأ من كتاب واحد: يتجه الجنود إلى قصر الرئاسة لوضع الرئيس وحاشيته قيد الإقامة الجبرية ثم يتجه بعض ممثليهم إلى مبنى التليفزيون لإذاعة البيان الأول وسط ترحيب شعبي معادٍ للوجود الفرنسي.كما الحال في مالي وبوركينا فاسو ومؤخراً النيجر في منطقة الساحل الشمالية الغربية، اتخذت الحكومات العسكرية الجديدة مواقف معادية بشكل علني تجاه فرنسا، مستغلة الاستياء الذي يشعر به العديد من المواطنين بشأن القوة الاستعمارية السابقة ونفوذها المستمر، وبذلك أصبحت فرنسا من خلال جيشها وممثليها الدبلوماسيين غير مرغوب فيها ويتم طردها بشكل علني من دول الساحل.وفي حال نجاح الانقلاب في الغابون سيكون هو الثامن في غرب ووسط أفريقيا منذ سنة 2020، ولعل ذلك يعني أن المكاسب الديمقراطية التي حققتها فرنسا منذ التسعينيات أصبحت أثراً بعد عين. وعلاقة بانقلاب الغابون، لا زالت وجهات نظر وسياسات النظام العسكري الجديد غير معروفة، ومن المعتقد أن رئيس الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغويما، هو الرأس المدبر للانقلاب. كما أنه من المرجح أن يؤدي الانقلاب إلى مزيد من حالة عدم اليقين بشأن الوجود الفرنسي في المنطقة، وتمتلك فرنسا نحو 400 جندياً في جمهورية الغابون. مع العلم بأنه قد تم طرد قواتها من مالي وبوركينا فاسو، كما أن النظام العسكري في النيجر مُصِر على رحيل الفرنسيين كذلك.وعلى عكس النيجر ودول الساحل الأخرى، فإن الغابون، التي تقع في الجنوب على ساحل المحيط الأطلسي، لم تضطر إلى محاربة حركات التمرد الإسلامية المزعزعة للاستقرار، لكن الانقلاب يعد علامة أخرى على التراجع الديمقراطي في هذه المنطقة المضطربة. بل ومن الممكن أن يكون حاسماً في إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية في المنطقة.التداعيات على النفوذ الفرنسيعرف النفوذ الفرنسي تراجعا في العديد من المجالات في القارة الإفريقية تتعلق أساسا بالجانب الأمني والاقتصادي.1- تراجع النفوذ العسكري الفرنسي: لقد حافظت باريس على وجود عسكري قوي في العديد من مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى روابط تجارية وثيقة تم الترويج لها كجزء من سياسة ما بعد الاستعمار التي فقدت اليوم مصداقيتها والمعروفة باسم: فرانس-أفريك “France-afrique”، غير أن النفوذ العسكري الفرنسي تراجع خلال الآونة الأخيرة بسبب سقوط الحلفاء المقربين لفرنسا في القارة الإفريقية.فقد نجم عن التوغل الاستعماري السابق لفرنسا في القارة الإفريقية إلى خلق حالة من الغضب لدى شعوب القارة الإفريقية مما أدى إلى تشويه صورتها، في مقابل ذلك عملت الصين وروسيا في الفترة الأخيرة على تقويض النفوذ الفرنسي والغربي في المنطقة. 2- إغلاق الشركات الفرنسية: أعلنت مجموعة “إيراميت” الفرنسية للتعدين، في نفس يوم الانقلاب، أنها “توقفت” في الغابون. وأوضحت أنه “في أعقاب الأحداث الأخيرة، أوقفت المجموعة أنشطتها في الغابون وذلك لحماية سلامة أفرادها وسلامة منشآتها”. وتوظف شركة “إيراميت” حوالي 8000 شخص في البلاد، معظمهم من الغابون. أدى هذا الإعلان إلى تراجع “إيراميت” في بورصة باريس. وتوجد هذه المجموعة الفرنسية في الغابون من خلال شركتين تابعتين: الأولى، شركة تعدين “كومولوج” المتخصصة في استخراج المنجنيز. كما تتولى شركة “ستراج” (شركة الاستغلال العابرة للغابون)، وهي الشركة الثانية التابعة للمجموعة الفرنسية، تشغيل السكة الحديدية للخط الذي يربط ساحل المحيط الأطلسي بالجنوب الشرقي للبلاد الغنية بالمعادن عبر غابة الغابون الاستوائية. وتقوم الشركة بنقل المعادن والركاب لمسافة تزيد عن 650 كيلومتر. وتنتج الغابون نحو 200 ألف برميل من النفط يومياً، معظمها من الحقول المستنفدة. ومن بين الشركات العالمية شركة “توتال إنيرجي” الفرنسية وشركة “بيرينكو” الأنجلو-فرنسية.التداعيات الأمنيةإن عودة عصر الانقلابات في منطقة الساحل أضحى أمراً بالغ الوضوح في المشهد السياسي والأمني للمنطقة. بحيث تنضم الغابون الآن إلى ستة بلدان عانت من انقلابات في الآونة الأخيرة… ومع ذلك، فإن صعود الجماعات المتطرفة والصراعات الأهلية، مثل الصراع في مالي أو بوكو حرام في نيجيريا، يميل إلى تغذية هذه الأحداث. فثمة صراعات مستمرة في جمهورية أفريقيا الوسطى، وهناك مخاوف من أن المشاكل في دول مثل مالي قد تتجه جنوباً نحو غانا ودول أخرى. بحيث نجد في منطقة الساحل بكاملها، التي تشكل أهمية استراتيجية وتاريخية وتمثل مُركَّباً أمنياً بالغ التعقيد والتشابك، أصبحت في حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار. مما يعني أن جماعات مثل القاعدة وبوكو حرام وغيرها يمكنها التمدد والتوسع وترسيخ أقدامها. وسوف يبدو دور التنظيمات الإقليمية والقارية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) ضعيفاً إذا أضحت غير قادرة على دعم الدول المتبقية التي لم تشهد انقلابات. كما أنه إزاء موجة الغضب الشعبي المتزايدة ضد الوجود الفرنسي والغربي أضحى الخطاب الشعبوي الذي تتبناه النظم العسكرية في غرب أفريقيا يحظى بالشرعية في أعين الجماهير التي تشعر بأنها تعيش مرحلة تحرر وانعتاق سياسي جديدة.التداعيات الجيوسياسيةبغض النظر عن مآلات انقلاب الغابون ومن قبله النيجر، فإننا أمام ظاهرة إعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة من خلال صياغة التحالفات الإقليمية والدولية. ربما تشهد المنطقة بوادر حرب باردة جديدة، حيث تحاول كل من الصين وروسيا ملء الفراغات الأمنية التي يُخلِّفها رحيل القوات الفرنسية والغربية، وعلى سبيل المثال، تقيم دول مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو روابط أمنية قوية عبر مجموعة فاغنر مع روسيا. وعليه، فإن على الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية اتخاذ قرارات حاسمة فيما يتعلق بمصالحهم الأمنية والاستراتيجية في القارة الإفريقية.بحكم أن انقلاب الغابون الذي أعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية في منطقة وسط وغرب أفريقيا يؤكد معضلة السياسات الفرنسية في المنطقة. الأمر الذي يؤكد وجود مزاج عام يتسم بحالة من الإحباط والاستياء في الكثير من هذه البلدان من النفوذ الفرنسي المستمر، وخاصة بين شباب المناطق الحضرية في بلدان القارة الإفريقية.ختاما، إن القارة الإفريقية، ولاسيما مجموعة بلدان غرب إفريقيا، لديها شعور قوي بالهوية الجماعية، لذلك من المرجح أن تنتشر الاتجاهات العسكرية الثورية المناوئة للنفوذ الفرنسي بسهولة أكبر عبر دول القارة. ولعل ذلك قد يدفع إلى تحولات أمنية وجيوسياسية واسعة النطاق.