بقلم الأستاذ يوسف عبد القاوي، محام، عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء
لا ينكر أحد أن المغرب يتوفر على بعض القوانين يمكن أن تنعت ب “Législation de luxe” أحيانا لا تتناسب والمعطيات السوسيو-ثقافية لبلدنا الحبيب.ولعل أبرز نموذج حديث هو القانون المتعلق بالعقوبات البديلة رقم 43.22 الذي نشر بالجريدة الرسمية رقم 7328، بتاريخ 22 غشت 2024، وهو قانون جميل في فلسفته، نبيل في أهدافه، غايته المعلنة ترشيد الاعتقال الاحتياطي وتخفيف العبء على السجون، حدد العقوبات البديلة في العمل لأجل المنفعة العامة، والمراقبة الإلكترونية، وتقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، إلى جانب الغرامة اليومية، وحدد استثناءات تطبيق هذه العقوبات البديلة في الجنح المتعلقة بجرائم أمن الدولة والإرهاب؛ الاختلاس أو الغدر أو الرشوة أو استغلال النفوذ أو تبديد الأموال العمومية، غسل الأموال؛ الجرائم العسكرية؛ الاتجار الدولي في المخدرات؛ الاتجار في المؤثرات العقلية؛ الاتجار في الأعضاء البشرية؛ الاستغلال الجنسي للقاصرين أو الأشخاص في وضعية إعاقة.
لكن السؤال الذي تتوجب الإجابة عنه هو: هل المشكل يكمن في القانون أم في من يطبق القانون؟ هل مؤاخذة السادة القضاة، جالسين وواقفين بعدم ترشيد الاعتقال الاحتياطي لها ما يبررها وما يفسرها؟ أم أنها مؤاخذة لا تحيط بالموضوع من جميع جوانه ولا تضع الإشكالية في سياقها العام؟.هل السيد وكيل الملك الذي يقرر إيداع شخص لم يوفر مؤونة شيك عند تقديمه للأداء تعسف ولم يرشد الاعتقال الاحتياطي أم طبق القانون!؟ هل السيد وكيل الملك الذي يقرر الإيداع في السجن بالنسبة لشخص لم يؤدي واجبات النفقة وأهمل الأسرة تعسف وبالغ ولم يرشد الاعتقال الاحتياطي أم أنه طبق القانون!؟.
إننا نرى أن مشكلة اكتظاظ السجون غير مرتبطة ارتباطا ضروريا بتطبيق القانون بقدر ماهي مرتبطة بالقانون نفسه، مرتبطة بالسياسة الجنائية التي يتوجب إعادة النظر فيها في اتجاه رفع الطابع الجرمي عن أفعال بعينها لم يعد الاستمرار في اعتبارها جريمة يستقيم والمنطق السليم.
إن المشكلة في ما يتعلق بالاعتقال الاحتياطي ترتبط بالقانون الجنائي ذاته، وليس في من يسهر على تطبيقه، فلم يعد من المعقول والمقبول الإبقاء على جرائم من قبيل عدم توفير مؤونة شيك عند تقديمه للأداء لأن المشرع ذاته يهتم بالمقاولة ولا يهتم بالمقاول، عندما تعاني المقاولة فإنه ينص على فترة ملاحظة ومراقبة وتسوية قضائية وتصفية وغيرها، لكن عندما يعاني المقاول يكون السبيل الوحيد هو الإيداع بالسجن، كما أنه لم يعد من المنطقي ولا من العدل إيداع أب أو زوج غير قادر على أداء النفقة بالسجن بدعوى إهمال الأسرة.
كما أن قضايا المخدرات بدورها تحتاج إلى نقاش مجتمعي هادئ وبناء يستحضر الكم الهائل من القضايا التي تعرض على محاكم المملكة الغارقة في هذا النوع من القضايا.
إن الاعتقال الاحتياطي تدبير استثنائي يتم اللجوء إليه في حالات خاصة يحددها القانون لا يجب أن يتحول إلى قاعدة، وإجراء يطرح إشكالات قانونية وحقوقية في منظومة العدالة، خاصة فيما يتعلق بقضية احترام الحريات الشخصية وقرينة البراءة.فبقدر ما هناك حاجة لمراعاة الضمانات الكثيرة التي أحاط بها القانون المغربي تنفيذ هذا الإجراء بقدر ما أنها لا تلامس لب الموضوع ألا وهو أنه آن الأوان لغربلة القانون الجنائي وبعض القوانين الجنائية الخاصة من بعض الجرائم التي لا تستقيم ومغرب اليوم، مغرب منفتح مغرب سياحي مغرب حداثي ديمقراطي…وإن كان قانون المسطرة الجنائية، قد حدد الاعتقال الاحتياطي كـ”تدبير استثنائي لا يمكن اللجوء إليه إلا في حالة الضرورة القصوى”، مثل انعدام ضمانات الحضور أمام العدالة أو تشكيل المشتبه به خطرا على المجتمع أو الخوف من اندثار وسائل الإثبات وقدرته على تدمير الأدلة، فإن تمة حاجة إلى التفكير في رفع الطابع الجرمي على مجموعة من الأفعال المرتبطة، على سبيل المثال لا الحصر، بمجال الشيكات والنفقة والمخدرات والحياة الخاصة وهو الأمر الكفيل بالتقليص بشكل كبير من نسبة المعقلين احتياطيا.وقد يكون أيضا لاستحضار آخر النظريات في علم الاجرام فائدة كبيرة من قبيل مفهوم “العقوبة النافعة”، كما جاء على لسان أستاذ علم الإجرام محمد جوهر: “إذا كانت الجريمة شر، وهي شر، فإن العقوبة إذا لم تكن نافعة تحولت إلى شر هي كذلك”.
نعم، يمكن للعقوبة أن تتحول إلى شر إذا كانت غاية في حد ذاتها، إذا كانت تتجاوز المعني بها إلى غيره، إذا كان المجتمع الذي باسمه تسطر المتابعات ولفائدة أمنه تصدر العقوبات لن يجني نفعا.
فهل ستنجح وزارة العدل من خلال القانون الجديد، بالفعل في خفض أعداد السجناء وتوفير تكاليف معيشتهم، إلى جانب حل مشكلة الاكتظاظ وحماية المتابعين مما تعتبرها “سلبيات تجربة السجن”، حسبما أوردت في المذكرة التقديمية لهذا القانون؟ أم أن الأمر يتعلق بتدبير ترقيعي لن يؤتي أكله إلا حين تنهض المؤسسة التشريعية بدورها في رفع التجريم عن أفعال بعينها، وتشجيع العدالة التصالحية والاهتمام بالضحايا والشهود؟. وكل ذلك حتى لا يبقى السوار كخيار غير مسبوق بحوار، بمثابة تشريع الكافيار مفتقر للهيبة والوقار.